في كل مرة أقوم فيها بالحجز عبر أحد مواقع خدمات السفر، يُطلب مني أن أحدد سبب رحلتي القادمة: هل هي للمتعة أم للعمل؟ في الغالب أجد نفسي مُجبرًا على اختيار "للعمل"، لأن معظم رحلاتي التي لا تكاد تتوقف تكون لأسباب عملية بحتة. نادرًا ما أسافر لأجل السياحة والاسترخاء، وإن حدث هذا فهو دائمًا مع العائلة في أوقات خاصة من السنة، مرتبطة عادةً بمواسم الإجازات.
حاولت مرات عديدة أن أدمج بين متعة السفر وواجبات العمل، لكن في كل محاولة كنت أفشل بشدة. كان الشعور بالذنب يطاردني دائمًا، كأنني أخون واجبات عملي أو أحرم نفسي من متعة السفر. لا يمكنني نسيان تلك المرة التي كنت أتجول فيها بين أزقّة برشلونة القديمة وأنا منشغل في اجتماع عمل عبر الهاتف. كنت أسير في شوارع المدينة بجسدي فقط، وعقلي وقلبي بعيدان تمامًا. والأمر الأصعب هو أنني حين عدت، شعرت أنني لم أعط المدينة حقها، وظننت خطأً أنني لا أحتاج إلى زيارتها مرة أخرى.
بعد تجربة جائحة كورونا، تغيّر منظوري للحياة بشكل كبير. قررت أن لا أؤجل السعادة مجددًا، وأن أحاول استغلال كل لحظة ممكنة للاستمتاع بها. بدأت أستمتع بفنجان القهوة لأجل القهوة نفسها، لا لمجرد أنني بحاجة إلى اليقظة. أصبحت أتناول الطعام لأتذوقه لا لمجرد الشبع، أتحدث مع الأصدقاء دون استعجال لإنهاء المكالمة، وأستقبل زيارات من أحبهم دون تخطيط مسبق. أصبحت تلك اللحظات الصغيرة شيئًا هامًّا وأساسياً في حياتي.
لكن نمط حياة الشركات الريادية التي أعيشها، والتي تفرض تحديات يومية ومستمرة، لا تزال تدفعني بشكل غير مباشر إلى الاستمتاع بحل المشكلات المهنية بدلًا من الاستمتاع بالحياة الطبيعية نفسها.
في رحلتي الأخيرة إلى سلطنة عُمان، الدولة التي لطالما حلمت بزيارتها كسائح فقط، وجدت نفسي هناك في مهمة عمل ملحة. وعلى الرغم من أن الفندق الذي أقمت به كان فاخرًا، ويطل على شاطئ خلاب كنت أحلم دائمًا أن أستمتع به، إلا أنني قاومت رغبتي بالخروج واكتشاف جمال المكان. اعتذرت بلطف عن زيارة معالم هامة كدار الأوبرا ورحلة الجزر الخلابة التي عُرضت عليّ، لأنني كنت مصرًّا على إتمام المهمة العملية بنجاح.
بطبيعتي، كنت دائمًا أسمع عن كرم أهل عُمان وطيبهم وأخلاقهم الرفيعة، لكن ما عشته هناك فاق توقعاتي كثيرًا. من اللحظة الأولى التي وصلت فيها، شعرت بحفاوة ودفء أهل المكان، كأنني عدت إلى وطني بعد سفر طويل ومرهق. شعور لا يمكن وصفه بالكلمات، ذلك الإحساس بالراحة التامة، بأنك بين عائلتك وأهلك، بعيدًا عن الرسميات والتوتر وقناع العمل الجاد. فكرت بصدق: لو أنني عرفت هذا المكان قبل سنوات، لكان من الخيارات الأولى للهجرة والاستقرار فيه. أما الآن، فأرى عُمان مكانًا مثاليًا لتقاعدي المستقبلي.
تذكرت مباشرة تجربتي في إحدى المدن السياحية العالمية الشهيرة، والتي عرفت لاحقًا للأسف بأنها من أكثر المدن احتيالًا. كانت تلك الليلة قبل 13 عامًا بمثابة درس صعب لا ينسى. استقليت سيارة أجرة بعد زيارة لأحد المعالم السياحية مع عائلتي، وتعرضت لأربع خدع متتالية من سائق واحد: التلاعب بعداد الأجرة، إطالة الطريق عمدًا، استبدال العملات الورقية، وإعادة مبلغ مزور بدلًا من الحقيقي، بل وتكرار إحدى الخدع مرتين! رغم مرور السنين، ما زلت أشعر بالغضب والمرارة من ذلك الموقف.
التناقض الكبير بين تجربتي في تلك المدينة وبين تجربتي الجميلة في عُمان، يجعلني متأكدًا تمامًا بأن البشر هم ما يصنع الفرق الحقيقي في أي رحلة. فليس التاريخ أو الجغرافيا أو الطعام وحده ما يبقى عالقًا في الذاكرة، بل المشاعر التي يعيشها الإنسان بسبب الآخرين هي ما يبقى للأبد.
منذ أن فتحت السعودية أبوابها للسياح من كل العالم، أصبحت أرى على وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من السياح الذين يندهشون من تفاصيل بسيطة في حياتنا اليومية، ككرم الضيافة ومساعدة الغرباء، وهي أشياء طبيعية تمامًا بالنسبة لنا لكنها مبهرة للغاية بالنسبة لهم.
كذلك أتذكر جيدًا تجربتي في قطر خلال كأس العالم، وكيف لامست دفء وكرم الناس هناك. وأستحضر بكل امتنان تجربتي الأولى في دبي عام 2004 أثناء أزمة السكن في معرض جيتكس، وكيف ساعدني موظف إماراتي بقي معي طوال الليل لتأمين مكان إقامتي. كما أتذكر صديقي العزيز في الكويت الذي خصص يومين كاملين ليأخذني في رحلة تذوق رائعة، زرت خلالها أكثر من 30 مطعمًا ومقهى. وأخيرًا البحرين، تلك الدولة التي كنت أزورها مع عائلتي باستمرار، وكانت دائمًا تمنحني شعورًا جميلًا وهادئًا يشبه صباحات الخميس في طفولتي.
لم يكن في نيتي كتابة هذه التجارب اليوم، لكنها تدفقت بشكل طبيعي حين بدأت أتذكر، وأصبحت على يقين بأن الناس وتجاربنا معهم هم الأثر الحقيقي والباقي من كل رحلة نقوم بها.